إدارة الإفتاء

اختلافُ الزّوجينِ فِي الرَّجْعةِ


اختلافُ الزّوجينِ فِي الرَّجْعةِ
 
 

إذا ادّعى الزوجُ بعد انقضاء عدّةِ زوجتِه المطلّقة وقبل أن تتزوّج من آخر أنّه راجعها في العدّة، وأنكرت الزّوجة؛ فما الحكم؟

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ القولَ قولُها مع يمينها؛ إلّا أن يقيم بيّنةً على قوله.

قال ابن المنذر: «وأجمعوا كذلك أنّ المطلّق إذا قال بعد انقضاء العدّة: إني قد كنتُ راجعتُ في العِدّة، وأنكرتْ: أنّ القولَ قولُها مع يمينها، ولا سبيل له عليها.

وانفرد النُّعمان: فكان لا يرى يميناً في النّكاح، ولا في الرّجعة»([1]).

تفصيل أقوال العلماء في المسألة:

1- مذهب الحنفيّة:

قال المرغيناني: «وإذا انقضت العدّة فقال كنت راجعتها في العدّة فصدّقته فهي رجعة، وإن كذّبته فالقول قولها؛ لأنّه أخبر عمّا لا يملك إنشاءه في الحال؛ فكان متّهماً إلا أنّ بالتّصديق ترتفع التُّهمة، ولا يمين عليها عند أبي حنيفة رحمه الله...»([2]).

وقال الـكاسـاني: «فَأَمَّـا إذَا أَخْـبَرَ عن الـرَّجْعَةِ في الزَّمَنِ الْمَاضِي؛ بِـأَنْ قـال: كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَقَدْ ثَبَتَتْ الرَّجْعَةُ سَوَاءٌ قال ذلك في الْعِدَّةِ أو بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ...، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ؛ فَإِنْ قال ذلك في الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ إنشاءه في الْحَالِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ في الْحَالِ، وَمَنْ أَخْبَرَ عن أَمْرٍ يَمْلِكُ إنشاءَه في الْحَالِ يُصَدَّقْ فيه...

 وَإِنْ قال بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ في الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ

الرَّجْعَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ بَعْدَ الْعَزْلِ إذَا قال قد بِعْت وَكَذَّبَهُ الْمُوَكِّلُ. وَلَا يَمِينَ عليها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُسْتَحْلَفُ...فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ بَيِّنَةً قُبِلَتْ بيِّنتُه،وَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ على الرَّجْعَةِ في الْعِدَّةِ فَتُسْمَعُ...

فَإِنْ قال الزَّوْجُ لها: قد رَاجَعْتُكِ، فقالت مُجِيبَةً له: قد انْقَضَتْ عِدَّتِي؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ مع يَمِينِهَا([3])، وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَأَجْمَعُوا على أنّها لو سَكَتَتْ سَاعَةً ثُمَّ قالت: انْقَضَتْ عِدَّتِي يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في أنّها إذَا بَدَأَتْ فقالت انْقَضَتْ عِدَّتِي، فقال الزَّوْجُ مُجِيبًا لها مَوْصُولًا بِكَلَامِهَا: رَاجَعْتُكِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا... »([4]).

2- مذهب المالكيّة: 

قال ابن عبد البر: «ومن ادّعى بعد انقضاء العدّة أنّه راجع امرأتَه في العدّة لم يقبل قولُه إلا بالبيّنة؛ فإن أقام بيّنة أنّه ارتجعها في العدّة ولم تعلم المرأة بذلك لم يضرَّه جهلُها بذلك وكانت زوجته»([5]).

  وقال البراذعيّ: «وإن قال لها في العدّة: كنت أرتجعتُك أمسِ صُدّقَ، وإن كذّبته...وإن قال لها بعد العدّة: كنت راجعتُك في العدّة فصدّقته أو كذّبته لم يُصدّق، ولا رجعة له إلا ببيّنة، أو يعلم أنّه كان يدخل عليها في العدّة ويبيت عندها فيُقبل قولُه وإن أكذبته...

وإن قال لمعتدّة: قد ارتجعتُك، فأجابته نسقاً لكلامِه: قد انقضتْ عِدّتي؛ فإن مضتْ مدةٌ تنقضي في مثلها صُدِّقت بغير يمينٍ، وإلا لم تُصدّق»([6]).

وقال الدسوقي: «حَاصِلُهُ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا ادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَ زَوْجَتَهُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا مُصَدِّقٍ مِمَّا يَأْتِي؛ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ صَدَّقَتْهُ عَلَى ذَلِكَ-وَالْمَوْضُوعُ أَنَّ الْخَلْوَةَ عُلِمَتْ بَيْنَهُمَا-، لَكِنْ يُؤَاخَذُ بِمُقْتَضَى دَعْوَاهُ ، وَهِيَ أَنَّهَا زَوْجَةٌ عَلَى الدَّوَامِ فَيَجِبُ لَهَا مَا يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ، وَكَذَا تُؤَاخَذُ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهَا إنْ صَدَّقَتْهُ ، وَلَا يُمَكَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ؛ 

فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقْهُ فَلَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ لُزُومَ مَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مـَشْرُوطٌ بِتَصْدِيقِهَا كَمَا يَأْتِي؛ فَإِنْ

كَذَّبَتْهُ لَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ لِإِقْرَارِهَا بِسُقُوطِ ذَلِكَ عَنْهُ... »([7]).

  3- مذهب الشّافعيّة:

قال النّووي: « إذا قال الزوج راجعتُك وأنكرت المرأة؛ فإن كان قبل انقضاء عدّتها فالقول قول

الزوج؛ لأنّه يملك الرجعة فملك الإقرار بها؛ كالزّوج إذا أقرّ بطلاق زوجته.

وإن انقضت عدّتها فقال الزوج: كنت راجعتك قبل انقضاء عدّتك، وقالت الزوجة: بل انقضت عدّتي قبل أن يراجعني -ولا بيّنة للزوج -؛ فقد نصّ الشافعيّ على أنّ القولَ قولُ الزوجة مع يمينها»([8]).

وللشافعيّة في المسألة تفصيلٌ بيّنه الإمام النوويّ؛فقال:

«فإذا ادعى أنّه راجع في العدّة، وأنكرت: فإمّا أن يختلفا قبل أن تنكح زوجا، وإمّا بعده. القسم الأول: قبله؛ فإمّا أن تكون العدّةُ منقضيةً، وإمّا باقية. 

الضرب الأول: منقضية وادعى سبق الرجعة، وادعت سبق انقضاء العدة؛ فلهذا الاختلاف صور. إحداها: أن يتفقا على وقت انقضاء العدّة، كيوم الجمعة. وقال: راجعت يوم الخميس، وقالت: بل يوم السبت؛ فثلاثة أوجه: الصحيح الذي عليه الجمهور القول قولها بيمينها أنّها لا تعلمه راجع يوم الخميس. والثاني: القول قوله بيمينه. والثالث: قالت أوّلاً: انقضت يوم الجمعة فصدّقها، وقال: راجعت يوم الخميس، فهي المصدّقة. وإن قال هو أوّلاً: راجعتك يوم الخميس فهو مصدق لاستقلاله بالرجعة، والرجعة تقطع العدّة.

فإن اقترن دعواهما، سقط هذا الوجه، وبقي الوجه الآخر، وبقي الأوّلان.

الصورة الثانية: أن يتّفقا على الرّجعة يوم الجمعة، وقالت: انقضت يوم الخميس، وقال: بل يوم

السبت؛ فهل يصدّق بيمينه أم هي، أم السابق بالدَّعوى؟ أوجه: الصحيح الأول([9]).

الثالثة: أن لا يتفقا؛ بل يقتصر على تقدّم الرجعة، وهي على تأخّرها؛ ففيه طرق ذكرناها في آخر نكاح المشرك، وهنا خلاف آخر حاصله أوجه: أصحها: تصديق من سبق بالدَّعوى؛ فلو وقع كلامُهما معاً فالقولُ قولُها، والثاني: تصديقها مطلقا، والثالث: تصديقه، والرابع: يُقرَعُ ويقدّم قول من خرجت قرعته؛ حكاه القاضي أبو الطيب، والخامس: يسأل الزوج عن وقت الرّجعة، فإذا تبيّن وصدّقته، وإلا ثبت بيمينه، وتسأل عن وقت انقضاء العدّة؛ فإن صدّقها وإلا ثبت بيمينها، ثم ينظر فيما ثبت من وقتيهما، ويحكم للسابق منهما، ولو قال: لا نعلم حصول الأمرين مرتّبا، ولا نعلم السّابق، فالأصل بقاء العدّة وولاية الرّجعة.

الضرب الثاني: أن تكون العدّة باقية، واختلفا في الرّجعة، فالقولُ قولُه على الصحيح. وقيل: قولها؛ لأن الأصل عدم الرجعة، فإن أرادها فلينشئها...»([10]).

4- مذهب الحنابلة:

قال البهوتي: «(وإن ادّعى في عدّتها أنّه كان راجعها أمس أو) أنّه كان راجعها (منذ شهر قبل قوله)؛ لأنّه يملك رجعتها فصحَّ إقرارُه بها.

 ( فإن ادّعاه) أي أنّه كان راجـعـها أمـس أو منـذ شهر (بعد انقـضائها ) أي العـدّة فأنكرته فقولُها)؛ لأنّه ادّعاها في زمن لا يملكها فيه، والأصل عدمها وحصول البينونة.

 ( وإن قالت قد انقضت عدّتي فقال) بعد ذلك (قد كنت راجعتك فقولها) لمّا تقدم.

 (وإن سبق فقال ارتجعتُك فقالت قد انقضت عدّتي قبل رجعتك فأنكرها فقوله)؛ لأنّه ادّعى الرّجعة قبل الحكم بانقضاء عدّتها، ولأنّه يملك الرّجعة وقد صحّت في الظاهر فلا يقبل قولها في إبطالها.

 (وإن تداعيا) ذلك ( معا قُدِّم قولُها)؛ لتساقط قولهما مع التساوي، والأصلُ عدم الرجعة...»([11]).  

وقال ابنُ قدامة: «وإذا ادّعى الزوجُ في عدّتها كان راجعها أمسِ أو منذ شهر قُبل قولُه؛ لأنّـه لمّـا مـلك الرّجعة ملك الإقرار بها كالطلاق. وبهذا قـال الشـافـعي وأصحـاب الـرأي وغيرهم.

وإن قال بعد انقضاء عدّتها: كنت راجعتُك في عدّتك فأنكرته فالقولُ قولُها بإجماعهم([12])؛ لأنه

ادّعاها في زمن لا يملكها، والأصل عدمها وحصول البينونة.

فإن كان اختلافهما في زمن يمكن فيه انقضاءُ عدّتها وبقاؤُها؛ فبـدأت فقـالت: انقـضـت عدّتي؛

فقال: قد كنتُ راجعتُكِ فأنكرته لم يقبل قولُه؛ لأنّ خبرها بانقضاء عدّتها مقبولٌ لإمكانه؛ فصارت دعواه للرّجعة بعد الحكم بانقضاء عدّتها؛ فلم تقبل([13]).

فإن سبقها بالدّعوى فقال: قـد كـنت راجعتك أمس؛ فقالـت: قـد انقضـت عـدّتي قَبْل دعواك

فالقول قوله؛ لأنّ دعواه للرّجعة قبل الحكم بانقضاء عدّتها في زمن الظاهر قبول قوله فيه؛ فلا يقبل قولُها بعد ذلك في إبطاله.

 

ولو سبق فقال: قد راجعتك؛ فقالت: قد انقضت عدّتي قبل رجعتك فأنكرها؛ فقال القاضي : القول قوله

لما ذكرنا وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي. وظاهر كلام الخرقي أنّ قولَها مقبولٌ سواء سبقها بالدّعوى أو سبقته، وهو وجه ثان لأصحاب الشافعي؛ لأن الظاهرَ البينونةُ، والأصلَ عدمُ الرّجعة؛ فكان الظاهر معها، ولأنّ من قُبل قولُه سابقاً قُبل قولُه مسبوقاً كسائر من يقبل قوله...

وإن وقع القولُ منهما جميعاً فلا رجعة؛ لأنّ خبرها بانقضاء عدّتها يكون بعدها فيكون قولُه بعد العدّة فلا يقبل. قال أبو الخطاب : ويحتمل أن يُقرَع بينهما؛ فيكون القولُ قولَ من تقع له القرعة، والصحيح الأول...» ([14]).
 

والخلاصة: أنّ اختلاف الزوجين في الرّجعة إن كان قبل انقضاء العدّة؛ فالقولُ قولُ الزّوج باتّفاق.

وإن كان الاختلاف فيها بعد انقضاء العدّة؛ فإن أقام الزّوج بيّنة على الرّجعة؛ فالقول قولُه باتّفاق المذاهب الأربعة.

وإن لم يقم بيّنة على الرّجعة؛ فإمّا أن تصدّقه الزوجة أو لا؟

فإن صـدّقته صـحّت الـرّجعة عند الجمهور؛ خـلافاً للمالـكيّة الّـذين يشترطـون البيّنة مطـلقاً حـتّى تصحّ الرّجعة.

وإن أنكرت قوله وكذّبته: فالقول قولها مع يمينها عند جمهور العلماء والصّاحبين من الحنفيّة، وعند أبي حنيفة: أنّ قولَها مقدّمٌ مطلقاً.

وإن ادّعت انقضاء العدّة في مدّة لا تنقضي فيها عادة لم تصدّق في ادّعائها، والقول قول الزّوج عندهم جميعاً.

وإن كان اختلافُهما في زمن يمكن فيه انقضاءُ عدّتها وبقاؤُها؛ ففيه التّفصيل السّابق، والله أعلم.
 

إدارة الإفتاء

       وحدة البحث العلميّ

________________________

([1]) الإجماع لابن المنذر (ص/89). وانظر: الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر (5/380). وقد حكى هذا الإجماع القرطبي أيضاً في الجامع لأحكام القرآن (3/122).

([2]) الهداية شرح البداية (2/7) للمرغيناني.

([3]) قال ابن الهمام في فتح القدير (4/164): «ولا يخفى أن هذا مقيّد بما إذا كانت المدّة تحتمل الانقضاء فلو لم تحتمله تثبت الرجعة؛ إلا إذا ادّعت أنها ولدت وثبت ذلك»، ثمّ ذكر أنّه لو اتّفق أن خرج كلام الرجل مع قولها انقضت عدّتي ينبغي أن لا تثبت الرجعة. وذكر في (4/331) أنّ المدّة شهران عند أبي حنيفة، وتسعة وثلاثون يوماً عند الصاحبين.

([4]) بدائع الصنائع (3/185-186). وانظر: المبسوط للسرخسي (5/5).

([5]) الكافي (2/618). وانظر: المقدّمات والممهّدات لابن رشد (1/547).

([6]) تهذيب المدونة (1 / 408-409). وانظر: التاج والإكليل على مختصر خليل للعبدريّ (5/408=مع مواهب الجليل للحطّاب).

([7]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/489). وانظر: حاشية الصّاوي على الشرح الصغير (2/609).

([8]) المجموع (17/271). وانظر: الأم للشافعي (5/356).

([9]) أي قوله بيمينه أنّها ما انقضت الخميس؛ لأنّ الأصل عدم انقضائها قبله.

([10]) روضة الطالبين (8/223-224). وانظر: مغني المحتاج (3/340).

([11]) كشاف القناع عن متن الإقناع (5/348).

([12]) يعني مع يمينها إذا أنكر الزوج قولها؛ كما بيّنه قبل هذا الموضع، وكما سبق في كلام ابن المنذر.

([13]) إلّا ببيّنة أنّه كان راجعها قبل؛ كما في الروض المربع (3/187). 

([14]) المغني (8/487). وذكر ابن مفلح في الفروع (5/361)، والمرداوي في الإنصاف (8/164) قولاً ثالثاً -في الصورة الأخيرة- أنّه يقدّم قولُه مطلقاً، والله أعلم. 

 
وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - دولة الكويت - إدارة الإفتاء